كان قرار فريق مبتدأ باختبار شكل مختلف من ورش العمل لتنتظم هذه المرة على هيئة معسكر مغلق لمدة ١١ يوم ومحاولة تتبع كيف يمكن أن تختلف ديناميكيات التعلم، وكيف أن توفر وقت خارج مساحة الجلسات المعرفية يمكن أن يسهم في بناء علاقة مختلفة بين المشاركين ويساهم في تشارك أكبر للخبرات والمعارف وإيجاد مساحات للمرح أيضًا. لم يكن هذا التغيُر الوحيد، إذ قررنا كذلك الخروج من العاصمة وعقد نشاطنا في الصعيد، ليس فقط للوصول لعدد أكبر ممَن ليس لديهم الفرصة للمشاركة في هذا النوع من الأنشطة والفعاليات، بل أيضًا لمحاولة اختبار المعرفة المقدمة في أماكن وسياقات مختلفة.

قصدنا في اختيار موضوع المعسكر أن يكون ذا أهمية وارتباط بحياة المشاركين، وأن يكون يمس حياتهم اليومية ولديهم بشكل أو بآخر خبرات وتجارب ويحملوا تجاهه أفكار ومواقف مختلفة. ولذلك جاء موضوع “العلاقة بين المركز والهامش: السُلطة والتنمية والعدالة المكانية”، كموضوع حاضر بشكل قوي في حياة المشاركين، بما أنهم من غير أهالي العاصمة. فجميعهم يضطرون أو يستشعرون حاجة

للذهاب والتواجد في العاصمة، إما لقضاء مصلحة أو للحصول على فرصة لا تتوافر لديهم في مكان سكنهم الأصلي. وكان من المُثري أيضًا الاستماع والاشتباك مع تجارب ومواقف مختلفة لهذا الموضوع، فمشارك من المنيا أو من الغربية قد يحمل انطباعات مغايرة عن مشاركة من العريش أو مشارك من الواحات عن علاقتهم بالقاهرة. كان من المهم كذلك مقاربة موضوع العلاقة بين المركز من مستويات مختلفة، بحيث لا تقتصر على علاقة العاصمة والمحافظات، فكانت المجالات المقدمة في المعسكر؛ الجغرافيا البشرية والاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع والتاريخ وأخيرًا الفلسفة.

فهناك مستويات أخرى للعلاقة بين المدينة والريف، والمراكز والقرى، وغيرها من المستويات المكانية، أو مستويات تنسحب على علاقات اجتماعية وطبقية وثقافية وغيرها. سعينا لفهم واستكشاف هذه العلاقات عن طريق مداخل معرفية مختلفة، بحيث تخدم هي الأخرى الموضوع المطروح، وبحيث تربط نقاشنا بمفاهيم السُلطة والتنمية والعدالة المكانية، فكانت المجالات المقدمة في المعسكر؛ الجغرافيا البشرية والاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع والتاريخ وأخيرًا الفلسفة. بعض هذه المجالات كنا نختبر تقديمها لأول مرة في ورش مُبتدأ، حيث يختلف اختيارنا للمجالات المعرفية باختلاف موضوع الورشة، وتأتي اختياراتنا لتخدم الموضوع بشكل أفضل، وتكون أكثر ارتباطًا به.

حاولنا في تحضيراتنا للمجالات المعرفية المختلفة تضمين أنشطة مختلفة أكثر تفاعلية تساعد المشاركين على الاشتباك مع بعض الأفكار النظرية المطروحة، أو مُحاكاة الواقع الاجتماعي بتعقيداته الكبيرة. في علم الاجتماع، قام ريم نجيب وأحمد الجيزي، مُيسّرا الحقل المعرفي، بتصميم لعبة “جري الوحوش” تُحاكي النظام الاجتماعي والاقتصادي وفيها تمثيل لمفاهيم مثل رأس المال الثقافي ورأس المال الاجتماعي والطبقة وغيرها من المفاهيم. أما في الجغرافيا البشرية، فكان نشاط مبني على محاولة كتابة سيناريو تخيلي عن مسار رحلة بنت بطوطة (شخصية خيالية)، حفيدة إبن بطوطة، التي تعيش في عصرنا الحالي وتحاول تتبع مسار جدها الأكبر، ويحاول المشاركون التفكير في المعوقات التي يمكن أن تواجهها مثل عبور الحدود والحصول على تأشيرات السفر والإجراءات الأمنية الأخرى. كذلك كان المدخل للاقتصاد السياسي في شكل حكاية لصيّاد يعمل بشكل تقليدي وبعد فترة يبدأ عمله في التحول لنمط إنتاج حديث، بحيث حاولت الحكاية الوقوف على مراحل مفصلية في هذا التحول ودلالاته. وكذلك قمنا بنشاط لقراءة الموازنة العامة للدولة، وكانت مهمة المشاركین استخراج بیانات الإنفاق على قطاعات مختلفة من الموازنة والموجهة لمحافظات مختلفة من أجل مقارنتها مع مثیلاتها في العاصمة، وفتح نقاش حول دلالاتها. واستطاع المشاركون استیعاب المفاهیم المختلفة والتفكیر بشكل نقدي وسیاسي في ما وراء هذه الأرقام.

تباينت الفروقات العمرية بين المشاركين وأيضًا خبراتهم في الحياة.فمنهم من شارك بمعسكرات من قبل ومنهم من كانت المرة الأولى التي يبتعد فيها عن أهله، منهم من اشترك في أنشطة تطوعية ومنهم من عمل في وظيفة أو أكثر لكسب العيش. رأينا كيف غُزلت هذه الخبرات والتجارب المتنوعة مع محتوى المجالات المعرفية، وساهمت في تيسيرها بشكل كبير. فعلى سبيل المثال، لاحظنا تجاوب وقدرة على الارتباط أكبر ببعض مفاهيم واقترابات الاقتصاد السياسي لدى مشاركَين اثنين كان لديهما تجربة عمل سابقة، أحدهما في محجَر والآخر في مصنع، فأصبح هناك نوعًا ما من الإنتاج المشترك للمعرفة. تضعنا هذه التجارب والخبرات التي يحملها المشاركون أمام محك يتحدى المقولات الضمنية التي ينطلق منها التعليم الرسمي في اعتماده على التلقي السلبي للمعلومات، والهيراركية التي تفترض معرفة المعلم وجهل التلميذ.

سمح لنا المعسكر، بما يوفره من وقت ومساحة للتعايش بين المشاركين وخلق مجتمع مترابط بينهم، بالقيام بعدة أنشطة أخرى إلى جانب تقديم المحتوى المعرفي. فتنوعت أنشطتنا الأخرى في أيام المعسكر ما بين فقرة رياضة صباحية وأمسيات ليلية ترفيهية وأخرى لتشارك الخبرات؛ إذ شاركت غصون توفيق مع المشاركين موضوع رسالتها للماجستير حول استثمار الأهالي من الفلاحين بإدراج أبنائهم في التعليم الرسمي، وفتحت معهم نقاش حوله. وفي جلسة ليلية أخرى عقدنا نقاش مفتوح حول موضوعين استشعر المشاركون حاجة لمناقشتهما؛ إذ اقترح بعضهم مناقشة موضوع “التنمية البشرية” وآخرون اقترحوا موضوع “المسئولية المجتمعية للشركات”. في محاولة كذلك للتعرف على المنطقة التي نزلنا بها، خرجنا في زيارة لآثار بني حسن في قرية تابعة لمركز أبوقرقاص، وزيارة أخرى لمدينة المنيا والاستمتاع بجولة نيلية فيها. خلقت هذه المساحات مجتمعة روحًا خاصة بين المشاركين، وسمحت بتعزيز بيئة التعلُم الخاصة بهم يومًا بعد آخر.